21 - 10 - 2024

رحلة الآلام للبحث عن حضَّانة.. و2000 حضانة معطلة بمستشفيات وزارة الصحة!

رحلة الآلام للبحث عن حضَّانة.. و2000 حضانة معطلة بمستشفيات وزارة الصحة!

مواليد يموتون على أبواب المستشفيات.. في الحكومية منها "حضَّانات موت" وإهمال وعبارة "مفيش أماكن".. وفي الخاصة " الليلة بـ 2000 جنيه
 وكيل سابق لوزارة الصحة: لا يوجد نقص معدات طبية فقط .. وإنما أيضا إهدار للإمكانات المتاحة

شعور لايوصف حينما نرى أطفالنا حديثي الولادة يتألمون داخل صندوق زجاجى لايرحم اسمه "الحضانة"، حيث يعيشون فيه ساعات وأياماً وليالى وخراطيم جهاز التنفس والمحاليل تخترق أجسامهم الصغيرة الضعيفة التى لاحول لها ولا قوة دون رحمة.

هؤلاء الأطفال لايصرخون من الألم ولا يبكون لكنهم ينظرون فقط الى السماء، ربما لانتظار ساعة الأجل أو إرسال نداء خفى لرب العالمين يشكون له ما يشعرون به داخل ذلك القفص الزجاجى.

فى الوقت الذى يدخل فيه الطفل إلى الحضانة، إن حالفه الحظ ووجدها، يتسلل الخوف والرعب للوالدين من النتيجة التى سيحصلون عليها، وذلك بسبب ما يسمعونه من حوادث الإهمال وعدم الخبرة فى التعامل مع أطفال الحضانات، مثل وفاة عدد كبير من المواليد داخل إحدى الحضانات إثر انقطاع التيار الكهربائي، وموت الأطفال نتيجة الإهمال وعدم دراية أطقم التمريض بأساسيات التعامل مع أجهزة الحضانات المساعدة. 

ورغم أن المصريين فى أمثالهم الشعبية يعبرون عن القيمة الغالية للأبناء بمقولة "الضنا غالى" إلا أنهم معرضون لفقدان أكثر من 100 ألف "ضنا" سنوياً بسبب ضعف إمكانيات "الحضانات" ووحدات رعاية الأطفال "المبتسرين" الذين يولدون ناقصي النمو.

وبحسب الخبراء والأطباء فإن هناك شروطًاً يجب توافرها في الحضانات منها ألا تقل المسافة بين كل حضانة والأخرى عن 6 أمتار، تجنباً لحدوث عدوى بين الأطفال، وتوفير ممرضة لكل طفلين على الأكثر، كما أن الحد الأقصى للأطفال الذين يتم وضعهم على السيرفو، وهو جهاز لتدفئة الأطفال بعد الولادة، يوضع عليه الطفل لمدة لا تزيد على بضع ساعات لحين توافر حضانة فارغة، هو طفلين، إلا أن المستشفيات لا تلتزم بهذه الشروط لضعف الإمكانيات، حيث توفر على سبيل المثال ممرضة واحدة لكل 8 أطفال كما يضعون 5 أطفال في الوقت نفسه على السيرفو.

وبسبب ذلك يلجأ الأهالي إلى المستشفيات والمراكز الطبية الخاصة لإنقاذ حياة أبنائهم، وهو ما يجعلهم يتحملون تكلفة عالية تفوق طاقتهم المادية في كثير من الأحيان، حيث لم يعد يقتصر الأمر على مجرد التكلفة، التي تتراوح ما بينآ  900 أو 1000 جنيه في اليوم الواحد، بل إن المستشفيات تتفنن في زيادة التكلفة، تحت مسميات مختلفة منها مستلزمات طبية وأدوية وفحوصات وأمور أخرى قد تتجاوز ألف جنيه أخرى يوميًا

وازدادت معاناة الأهالي بعد قرار الحكومة بمصادرة الجمعية الطبية الإسلامية بفروعها الـ28 والتي تحتل المرتبة الأولى من حيث عدد الحضانات على مستوى العالم، حيث تمتلك 1090 حضانة منتشرة في 18 محافظة، في الوقت الذي لم يتجاوز فيه عدد الحضانات بمستشفى قصر العيني 25 حضانة تتكلف الليلة الواحدة فيها نحو 1500 جنيه، بينما كانت تقدمها الجمعية مجانًا.

وسبق ذلك قرار الحكومة بتجميد ومصادرة 138 فرعاً من فروع الجمعية الشرعية والتي يتوفر بمستشفياتها والمراكز الطبية التابعة لها 750 حضانة على مستوى مصر.

ومن هنا عشنا مأساة العديد من الأهالى الذين سرعان ما أنطفأت فرحتهم بقدوم طفل جديد، حيث يعيش أب وأم بهجة قلقة مترددة لساعات قليلة، وسط العجز عن إنقاذ رضيعهما من الموت، وذلك لعدم وجود مكان فى حضانة بالمستشفيات الحكومية، لينتهى الأمر بسكون جسد الوليد الصغير بينما يتسرب الأمل من بين أصابع الأبوين وتتحجر الدمعة فى عيونهما وتسكن الحسرة قلباً لم يكد يشعر بالفرحة.

قمنا بجولة ميدانية داخل العديد من المستشفيات الحكومية والخاصة وذلك لأستقصاء أبعاد المشكلة وأكتشفنا فى المستشفيات الحكومية انها لاتقف عند نقص الحضانات فقط وانما تشمل أيضاً شروطا مخالفة فى تجهيز أقسام الحضانات، وعجزاً فى عدد الممرضات بوحدات الأطفال المبتسرين، ولا مبالاه فى التعامل مع مآسي هؤلاء الأطفال وأهاليهم.

توجهنا - بداية - إلى مستشفى "الجلاء" ليس لأنها المستشفى التى توجه إليها العديد من المواطنين للعثورعلى حضانة تنقذ أطفالهم أو تسعفهم ويفشلوا فى ذلك لعدم توافر أماكن لهم، ولكن لكونها أكبر المستشفيات المتخصصة فى الولادة التى تخدم أهالى القاهرة والقليوبية وتأتى إليها آلاف الحالات من محافظات أخرى

جولتنا داخل مستشفي الجلاء حملت العديد من المفاجآت، حيث أننا وقفنا أمام الباب الرئيسى لوحدة الأطفال المبتسرين، وشاهدنا الأهالى يجلسون على درجات السلم فى انتظار خبر يأتى من هنا أو هناك عن حضانة فارغة والأصوات تتعالى: "حرام عليكم عيالنا هتموت"

انتظر الأهل على باب الوحدة حتى خرجت إليهم الممرضة تحمل الطفل ملفوفاً فى ملاءة صرخ أحد أقاربه فيها "بسرعة بسرعة الولد تعبان" وابتسمت الممرضة فى وجهه ووقفت تطلب منه حلاوة المولود وقد لاحظنا أن أغلب الممرضات يساومن الأهالى للحصول على "الحلاوة" قبل تسليم الأطفال

ومن هنا دس والد الطفل يده فى جيبه وأخرج بضعة جنيهات، ولكن يبدو أنه خالف توقعاتها فعادت لتطلب منه المزيد قائلة "ده مقامه برضه ده ولد ربنا يخلى".

أثناء جولتنا بالمستشفى التقينا بأسامة الشيخ، أحد الأهالي، الذى قال: زوجتي ولدت في المستشفى، وربنا رزقني ببنتين توأم، لكنهما تعانيان من نقص نمو وصعوبة في التنفس وتحتاجان حضانة لفترة طويلة وحينما ذهبت لحضانة المستشفى قالوا لى جميع الأجهزة مشغولة.

وأضاف أن التكلفة في الحضانة الخاصة لا تقل عن 20 ألف جنيه بداعي أن تكلفة الليلة الواحدة تكون أكثر من 1000 جنيه للبنت الواحدة فقط متابعًا "البنتان توأم، وليس فى مقدرتنا استمرار وجودهم في الحضانات الخاصة ومازلت أنتظر حضانة في المستشفى لوضع إحداهن فيها بدلاً من الخاصة"

أحمد موسي، موظف، كان يحلم بعد زواجه أن يرزقه الله بالأطفال ولكن بعدما تحقق حلمه، لم يستطيع أن يفرح، فرغم ولادة ابنه وتأكيد طبيب العيادة الخاصة أن الرضيع بحالة جيدة، إلا أنه لم يمر يومان، وفوجئ بتغير لون جسد طفله وتحوله للأزرق، وصاحب ذلك صراخ متواصل من الرضيع، لتبدأ رحلة البحث عن الأسباب، لتتعدد التشخيصات ما بين إمساك طبيعي وتسمم بالدم وعيب خلقي بالأمعاء. بعدها تبدأ رحلة البحث عن حضانة رعاية مركزة لأن الرضيع بحاجة لعملية نقل وتغيير الدم يومياً، وبعد يومين تم الوصول لحضانة تابعة لمركز خاص بقيمة 2000 جنيه لليلة الواحدة، ونصحه الأطباء بالتوجه إلى أكبر مستشفى للأطفال والوحيدة المتخصصة فى علاج العيوب الخلقية ولديها وحدات رعاية مركزة.

ويصل موسى لنهاية حديثه أنه جاء إلى مستشفي " الجلاء" على أمل إيجاد حل لمشكلة طفله، ولكن الأطباء داخل المستشفى رفضوا استلام الحالة بحجة عدم وجود مكان بالحضانات، واكتفوا بإعطائه ورقة بها أسماء الحضانات المجانية، ووصفوه الحالة بالحرجة وأنه بحاجة لإجراء جراحة دقيقة بالأمعاء وتوفير حضانة رعاية مشددة بها أجهزة تنفس صناعي وتغذية بالوريد.

ويطالب موسى بضرورة توفير حضانات أكثر في المستشفيات الحكومية، حفاظاً على أرواح الأطفال وعدم تكليف الأهالي بزيادة عن طاقتهم وفتح مستشفيات المواساة لخدمة الأهالي، بحيث تكون تحت إشراف الحكومة.

أبو الريش 

توجهنا الى مستشفي "أبو الريش"، والتقينا بأم سلمى محمد المقيمة داخل محافظة الشرقية، والتى وضعت طفلتها منذ 4 ايام فقط ثم جاءت بها من الشرقية بعدما فوجئت بكبر حجم رأسها وبعدما ذهبت بها للعديد من الأطباء والذين أكدوا لها إنها تعاني من وجود مياه علي المخ وأن علاجها لا يتوافر سوى بمستشفي "ابوالريش"

وبجوار رضيعتها جلست تبكي وتتألم بعدما أبلغها الاطباء بمركز الاستقبال بمستشفي "ابو الريش" أنه لا مكان بالحضانات لطفلتها وعليها سرعة التوجه لمستشفي أخرى وإلا فقدت حياتها.

طبيبة الاستقبال بالمستشفى مروة عبدالهادي تحدثت عن وضع الوحدة ووضع الاطفال حديثي الولادة القادمين للعلاج بها قائلة: تأتى إلينا حالات يصعب تشخيصها ولا يوجد مكان لعلاجها أو تشخيصها وأغلبها نزيف دموى وعيوب خلقية وصفرة عالية وأمراض بالقلب والمخ وترفض المستشفيات قبولها.

ويتم تحويلها هذه الحالات للحضانات لدينا والرعاية المركزة للحالات الحرجة، وإذا لم نجد مكانا يتم تشخيص الحالة ومحاولة مساعدة الاهالي للوصول لحضانة مناسبة، وتشير إلى كثرة العدد بقولها: تأتي إلينا مئات الحالات يومياً ونعمل على مدار اليوم ويتم التنسيق مع المستشفيات العامة

كما تحدث طبيب الوحدة الدكتور عمرو عبد الهادي قائلاً: إن هناك قصورا في الإمكانيات المادية، لأن الوحدات تابعة للمستشفيات الجامعية وتحصل على تمويل مادى منها، وهو غير كاف، وإذا لم تتوافر التبرعات ستقف الوحدات عن العمل ولدينا40 حضانة وجميعها مشغولة ولا يوجد حضانة خالية وهناك اولوية للأطفال الذين تتم ولادتهم بالقصر العيني ويعمل بالوحدة أساتذة ومساعدين يتولون المرور بشكل يومي.

ويضيف الطبيب:"المشكلة الرئيسية هى التمريض، لدينا عجز رهيب فالمعدل العالمي هو ممرضة لكل حضانة، ولكن لدينا فقط حوالى 15 ممرضة، وهو ما يضطرنا لتكثيف العمل والمجهود ليصبح ممرضة لكل 5 حضانات أو أكثر، وهي مشكلة ضخمة وبالأخص داخل وحدات الرعاية المركزة وللأسف هناك إغراءات تقدم لهم من قبل المستشفيات الخاصة ويقبلون على ترك الخدمة بالمستشفى الحكومي لضآلة المرتبات"

في مستشفي تبارك للأطفال بشبرا الخيمة، التقينا بسيد محمد، الذى أكد لنا أن ابنه منذ ولادته حتى الأن وهو داخل الحضانة، حيث انه يدفع له فى الليلة الواحدة 1000 جنيه ، إضافة إلى مايدفعه للممرضات حتى يتم الاعتناء بابنه داخل الحضانة وتمكينه من رؤيته.

وأضاف: أدخلت طفلي حضانة خاصة، حتى أكون مطمئنا عليه بدلاً من أن يموت داخل الحضانات الحكومية مثلما حدث فى كفر الشيخ، حيث انقطعت الكهرباء عن مستشفي كفر الشيخ واحترق مولود نتيجة زيادة الأحمال، لذلك رفضت أن أضع ابنى داخل أى مستشفي حكومى.

تقدير موقف للصحة في مصر

من جانبه قال الدكتور أحمد سعفان، وكيل وزارة الصحة سابقاً،آ  إن الوزارة تعمل علي خلق جيل ثان وثالث من شباب الأطباء، كما تنفذ استراتيجية جديدة تبدأ من تحديد ومعرفة الموقف الحقيقي لملف الصحة في مصر، مشيرًا إلي أن الوزارة انتهت من عمل قاعدة بيانات لـ 440 مستشفي علي مستوي الجمهورية، واتضح لنا من هذه القاعدة أن مصر رغم معاناتها من نقص العديد من الاشياء المتعلقة بالعملية الصحية، إلا أن هناك إهدار وعدم استخدام للإمكانيات المتاحة.

وأضاف سعفان: رغم ما نعانيه من نقص في عدد الحضانات، علي سبيل المثال، إلا أن لدينا 3 آلاف و139 حضانة لا يتجاوز عدد الحضانات التي تعمل منها ألف و300 حضانة، ولدينا 1885 سرير عناية مركزة، والعدد الفعلي لعدد الأسرة التي تعمل 1200 سرير.

وأوضح سعفان: لدينا سوء توزيع للأطباء والأسرة، ومصر تحتاج إلي اتخاذ إجراءات غير تقليدية في ملف الصحة لا تتماشي مع لوائح الصحة 239 لسنة 1998 و120 لسنة 2001 والتي تدار بها المستشفيات.
 -------------------

تحقيق: بسمة رمضان